فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل، وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل، وجوز إرادة هذا المعنى المجازي على غير هذا القول من الأقوال، وقيل: الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى.
وقيل: المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظًا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] والمعول عليه ما تقدم، وجوز تعلق الجار بكريم كما يقال زيد كريم في نفسه، والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريمًا عند الكفار، والوصفية أبلغ كما لا يخفى، وقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} إما صفة بعد صفة لكتاب مرادًا به اللوح، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية، وقيل: عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما طهارة معنوية، ونفى مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه، وإما صفة أخرى لقرآن.
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه» الحديث وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح، وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل لا ناهية، وثانيها: أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل، وثالثها: أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس، ورابعها: أن عبد الله قرأ {ما يمسه} وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروى من عدة طرق عن ابن عباس.
وكذا أخرجه جماعة عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في {لاَّ يَمَسُّهُ} مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال: في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس، والمنافق الرجس وأخرجاهما ابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال: في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال: قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} أنها بمنزلة الآية التي في عبس {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ في صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 16] وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروى عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام، وعطاء، وطاوس، وسالم، وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في (المصنف)، وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان يعني الفارسي رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال: سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون}، وقيل: الجملة صفة لقرآن، والمراد بالمطهرون المطهرون من الكفر، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى: {أَنَاْ لَمَسْنَا السماء} [الجن: 8] أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر، ولم أر هذا مرويًا عن أحد من السلف، والنفي عليه على ظاهره، ورجح جمع جعل الجملة وصفًا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون، وإن كان في تعظيمه تعظيمه.
وصحح الإمام جعلها وصفًا للكتاب وفيه نظر وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر.
وفي (الأحكام) للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في اختيار ذلك، والاحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن، وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال بالأخبار.
فقد أخرج الإمام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمس القرآن إلا طاهر» إلى غير ذلك، وقال بعضهم: يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضًا، وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريمًا، والمس بغير طهر مخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى، وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه، نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه.
وقيل: حرام كالمس باليد المتنجسة، وكون القراءة في مكان نظيف، والقارئ مستقبل القبلة متخشعًا بسكينة ووقار مطرقًا رأسه، والاستياك لقراءته، والترتيل، والتدبر، والبكاء، أو التباكي، وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة، وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه، فقد أخرج أبو داود وغيره «عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها»، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره، وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل: بكفر من يفعل ذلك، إلى أمور أخر مذكورة في محالها، وفي وجوب كون القارئ طاهرًا من الأحداث خلاف، فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن، وروي ذلك أيضًا عن الإمام أبي حنيفة، وعن ابن عمر أحبّ إلي أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر.
وقرأ عيسى {المطهرون} اسم مفعول مخففًا من أطهر، ورويت عن نافع وأبي عمرو.
وقرأ سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه {المطهرون} بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي {المطهرون} أنفسهم، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام، وعنه أيضًا {المطهرون} بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء؛ ورويت عن الحسن وعبد الله بن عون، وقرئ {المتطهرون} على الأصل.
{تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} صفة أخرى للقرآن أي منزل، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجومًا من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل.
وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف، وقرئ {تنزيلًا} بالنصب على نزل تنزيلًا. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}.
الأقسام المنفية في القرآن ودلالاتها:
أكثر المفسرين على أن {لا} في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ} زائدة، وأن التقدير: أقسم بمواقع النجوم.. ولم يذكروا لهذه الزيادة وجها مقبولا، حتى لكأنها زيادة مقحمة لضرورة كضرورة الشعر..
ويرى الزمخشري ـ مثلا ـ أن زيادة {لا} تقتضى أن يكون النظم هكذا: {فلأنا أقسم بمواقع النجوم}. وعلى هذا يكون أصل النظم جملة من مبتدأ وخبر، وأن لام الابتداء دخلت على المبتد، وهو وإن كان نادرا، إلا أن ذلك ورد، في لسان العرب، كقول الشاعر:
خالى لأنت ومن جرير خاله ** ينل العلاء ويكرم الأخوالا

وهذا تكلف بعيد، وركوب ضرورات كثيرة لا يلجأ إليها إلا عند العجز وضيق مجال الكلام.. وهذا ما ينتزه عنه كلام اللّه.
ثم إن الموجود هنا {لا} لا، لام الابتداء، التي تحولت بهذه الصناعة المتكلفة إلى {لأنا} ثم حذفت أنا، وبقيت منها الهمزة التي لصقت بلام الابتداء، فأعطتها هذه الصورة الزائفة!! وكلام اللّه تعالى منزه عن النقص، متعال عن الوقوع تحت حكم الضرورة، وإن كل حرف منه ليرجح الوجود كله كمالا، وجلالا..
فما هي {لا} هذه؟ وما مفهومها؟.
هى ـ واللّه أعلم ـ {لا} النافية.. وهى تجىء غالبا في معرض القسم تنزيها للمقسم به، وإجلالا لقدره، أن يقسم به على أمور واضحة بينة، لا تحتاج إلى سند يسندها من قسم أو نحوه..
فالقسم ـ عادة ـ إنما يرد لإثبات أمر من الأمور التي يستبعد المخاطب وقوعها أو لتقرير حقيقة من الحقائق، وتوكيدها، وإزالة الشبهة عنها عند المقسم له، حتى يقبلها ويطمئن إليها..
وإنه ـ والأمر كذلك ـ من الاستخفاف بقدر المقسم به، بل والامتهان له، أن يستدعى عند كل أمر وإن صغر، وأن يبرر به كل شأن وإن حقر أو ظهر، فذلك من شأنه أن يرخص هذا المقسم به، وأن يذهب بجلاله، وينزل من قدره، فلا يكون له وقعه على النفوس، إذا هو استدعى للقسم به في حال تحتاج إلى تبرير وتوكيد! وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} (224: البقرة) فتعريض اسم اللّه سبحانه وتعالى للقسم به، حتى في مقام البرّ بهذا القسم، ورعاية حقه، وحتى في مقام الصلح بين الناس ـ هو مما ينبغى للمؤمن أن يتحاشاه، وألا يجىء إليه إلا في قصد، عند ما تدعو الضرورة إليه! فقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ـ هو تعريض وتلويح بالقسم بمواقع النجوم، دون القسم بها، لأنها ذات شأن عظيم، فلا يقسم بها إلا لتقرير الحقائق المشكوك فيها، والمرتاب في أمرها.. أما جليّات الأمور وبدهياتها فلا يقسم لها، لأن القسم لها، هو تشكيك فيها، ووضعها موضع ما يكون من شأنه أن يثير المماراة، والخلاف..
وقد كثر في القرآن الكريم هذا الضرب من التلويح بالقسم عن طريق النّفى، وذلك حين يكون المقسم هو اللّه سبحانه وتعالى، والمقسم به، ذات من ذوات المخلوقات العظيمة المكرمة عند اللّه، وحين يكون المقسم عليه أمرا جليّا، بينا لا يحتاج إلى بيان..
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [16 ـ 19 الانشقاق] وقوله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} [1 ـ 4: القيامة] وقوله جلّ شأنه: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [15 ـ 20 التكوير] فهذه الأقسام واقعة على أمور عظيمة، محققة الوقوع على الصورة المعروضة فيها، وعلى الصفة الموصوفة بها، بحيث لا يصح أن تقع موقع الإنكار، من ذى مسكة من عقل أو فهم.. فإذا كان هناك من يشك أو يرتاب، فإنه لا معتبر لشكّه أو ارتيابه، ولا جدوى من وراء القسم له بأى مقسم به، إذ كان لا يجدى معه ـ في هذا الصبح المشرق بين يديه ـ أن تضاء له المصابيح، وتقام له الحجج والبراهين. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].